تعيشُ تونس الآن ثورتَها التاريخيةَ. تعيشها بجميع ما في الثورةِ من ألم وفرحةٍ، بل إنّ الشعبَ التونسيَّ هو الشعبُ الوحيد الذي يستَطيعُ أن يُخبِرَ شعوب العالَمِ عن طعمِ امتزاجِ الفرحِ بالتّرحِ، هو الوحيد الذي يمتلك وصفةَ ثورتِه البليغةَ، ويمتلك أداتَها، ويعرفُ توصيفَها بالكلامِ. أنجز الشعب التونسيُّ ثورتَه في أيّام قليلةٍٍ، دفع فيها ثمنا باهظًا من أرواحِ أبنائه وامتلاءِ الشوارع بالخوفِ. وهو ينتظرُ الآن ثمرةَ ثورتِه. ينتظر أن تنفتح الأبوابُ التي كانتْ موصدةً في وجهِ الناسِ بجميع فئاتهم، ينتظر أن يعمّ الخير والرخاء والحرية ربوعَ تونسَ، ينتظر أن تتحقّق مطالبَه في الكرامة والعزّة والعدل دون تمويهٍ. شعب تونس يقف الآن في ساحة الأبطال التاريخيّين، بل هو يقدّم مثالاً عربيًّا عن كيفية تكسير الشعوبِ لجبال الخوف التي تنبتُ فيها وتمنعها صناعةَ تاريخِها.
***
الشعبُ التونسيُّ ظمآنٌ للحقِّ، ولكنّ بعضَ السياسيّين راحوا يسقونَه الباطلَ. هل يجوز القول بوجود رغائب في سرقةِ الثورةِ؟ هل يمكنُ أن يطمئنّ شعب تونس الثائرُ إلى خطابٍ سياسويٍّ كُتِبَ بالليلِ ويُنجزُ بأيادي النهارِ؟ الحقّ نقولُ إنّ مَنْ يظنُّ أنّه قادرٌ على وأدِ ثورةِ شبابِ تونسَ كائنٌ مخطئٌ لم يعِ بعدُ بحجمِ هذه الثورةِ، وعليه أن يسكنَ صمتَه ليؤمن بدويِّ معجزةِ هذا الشعب، بل عليه أن يتدبّرَ أفكارًا له جديدةً ربّما يستطيعَ التواصلَ بها مع الأحداثِ تأويلاً لدَلالاتها وتنزيلاً لها في سياقاتِها التونسيّة الخاصّةِ. الشعبُ التونسيُّ توحّدَ مع ثورته حتى صار فردًا واحدًا، صار هو الثورة، يعيشُها ويكتُبُها ويتغنّى بها بصوتٍ واحدٍ وبلغةٍ جميلةٍ منفتحةٍ على ثرواتِ المعنى الوطنيّ والعربيّ والإنسانيّ الخامِّ.
***
وإنّ الثورةَ التونسيّةَ ستنتصرُ، هذه حتميّةٌ لا تحتاجُ براهينَ لإثباتِها إلاّ للذين لا يعرفون مدى تبصُّرِ تونس بواقعها وحكمة شبابِها ووعيِ شعبِها بواقع محيطه العربيّ والعالَميِّ. ولكنّ على الساسةِ أن يرتقوا بمواقفهم وتصريحاتهم إلى مستوى هذه الثورةِ التونسيّة، عليهم أن يستمعوا إلى أصوات الشعب ليتعلّموا منها ألفاظَهم. السياسيُّ التونسيُّ، وكذا العربيُّ، تعرّى من كلّ أوراقِه، بل نستطيعُ القولَ إنّ الثورةَ التونسيّةَ طهّرتْه من أدرانِ تصوّراته، ومنحتْه فرصةً في التاريخِ لن تتكرّرَ: فرصةً في أن يكون الصوتَ الصادق لمطالب الشعبِ دونما تجميلٍ إيديولوجيٍّ. وإذا لم يعِ بهذه الحقيقةَ، سينجرفُ إلى خارجِ التاريخِ، ويبقى معزولاً هناك