ملك الناصر أبو المظفر يوسف بن أيوب (
1138 -
1193م)، مؤسس
الدولة الأيوبية في
مصر وأمتد
سلطانه إلى مدن
الشام وشمال
العراق وبلاد
اليمن والحجاز. اشتهر بلقبه السابق
صلاح الدين في
دمشق قبل أن يصبح سلطاناً
لمصر وتسمى بالملك الناصر، استولى على أغلب مدن
مملكة
بيت المقدس وفتح عاصمتها
القدس الأمر الذي أدى لقيام
الحملة
الصليبية الثالثة بقيادة ملوك فرنسا وإنكلترا وألمانيا.
مولدهصورة معلقة على ضريحه بدمشق
السلطنة الأيوبية تحت حكم صلاح الدينولد صلاح الدين في
تكريت عام
532 هـ/
1138م (حالياً في
العراق)
في ليلة مغادرة والده
نجم
الدين أيوب قلعة
تكريت حينما كان والياً عليها، ويرجع نسب الأيوبيين إلى أيوب بن شاذي بن مروان
من أهل مدينة دوين في
أرمينيا[1]،
ويرجع ابن الأثير نسب أيوب بن شاذي بن مروان إلى الأكراد الروادية وهم فخذ
من الهذبانية
[1]،
بينما يرفض بعض ملوك الأيوبيين هذا النسب وقالوا: "انما نحن عرب، نزلنا
عند الأكراد وتزوجنا منهم"
[2]،
الأيوبيون نفسهم اختلفوا في نسبهم فالملك المعز إسماعيل صاحب اليمن أرجع
نسب بني أيوب إلى بني أمية وحين بلغ ذلك الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن
أيوب قال كذب إسماعيل ما نحن من بني أمية أصلاً
[2]،
أما الأيوبيون ملوك
دمشق فأنهم أثبتوا نسبهم إلى بني مرة بن عوف من بطون
غطفان وقد أحضر هذا النسب على
المعظم
عيسى بن أحمد صاحب دمشق واسمعه ابنه الملك الناصر صلاح الدين داود
[2].
وقد شرح الحسن بن داود الأيوبي في كتابه "الفوائد الجلية في الفرائد
الناصرية"
[3] ما قيل عن نسب أجداده وقطع أنهم ليسوا أكرادا، بل نزلوا عندهم فنسبوا
إليهم. وقال: "ولم أرَ أحداً ممن أدركتُه من مشايخ بيتنا يعترف بهذا
النسب".
كما أن الحسن بن داوود قد رجَّح في كتابه صحة شجرة النسب التي وضعها
الحسن بن غريب،
والتي فيها نسبة العائلة إلى أيوب بن شاذي بن مروان بن أبي علي (محمد) بن
عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز بن هُدْبة بن
الحُصَين بن الحارث بن سنان بن عمروبن مُرَّة بن عُوف بن أسامة بن بَيْهس
بن الحارث بن عوف بن أبي حارثة بن مُرّة بن نَشبَة بن غَيظ بن مرة بن عوف
بن لؤي بن غالب بن فِهر (وهوجد
قريش).
وكان نجم الدين والد صلاح الدين قد انتقل إلى
بعلبك حيث أصبح والياً عليها مدة سبع سنوات وانتقل إلى
دمشق وقضى صلاح الدين طفولته في دمشق حيث قضى فترة شبابه في بلاط الملك العادل
الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي ملك
دمشق [4].
وكان من القادة في جيش نور الدين، أرسله نور الدين من
دمشق في
الحملات في
الشام وإلى
مصر ليستكمل
عمل عمه
أسد الدين شيركوه على
رأس الجيش الذي أرسله من
دمشق لمواجهة الصليبين في الشام وفي مصر بسط سيطرته عليها والعمل على صد
الحملة الصليبية، وفي
ذات الوقت ليستكمل انتزاعها من الفاطميين الذين كانت دولتهم في أفول، فنجح
في عرقلة هجوم الصليبيين سنة 1169 بعد موت عمه شيركوه، وقمع تمرداً للجنود
الزنوج، كما فرض نفسه كوزير للخليفة
للعاضد، فكان صلاح الدين هوالحاكم الفعلي
لمصر.
بدايتهكان الوزير الفاطمي
شاور قد
فر من مصر هرباً من الوزير
ضرغام بن
عامر بن سوار الملقب
فارس المسلمين اللخمي المنذري لما استولى
على الدولة المصرية وقهره وأخذ مكانه في الوزارة وقتل ولده الأكبر
طيء بن شاور فتوجه شاور إلى الشام مستغيثا بالملك
نور
الدين زنكي في
دمشق وذلك في شهر رمضان 558ھ ودخل دمشق في 23 من ذي القعدة من السنة نفسها فوجه
نور الدين معه
أسد الدين شيركوه بن
شاذي في جماعة من عسكره كان صلاح الدين في جملتهم في خدمة عمه وخدمة جيش
الشام وهو كاره للسفر معهم وكان لنور الدين في إرسال هذا الجيش هدفان؛ قضاء
حق شاور لكونه قصده، وأنه أراد استعلام أحوال مصر فإنه كان يبلغه أنها
ضعيفة من جهة الجند وأحوالها في غاية الاختلال فقصد الكشف عن حقيقة ذلك.
وكان نور الدين كثير الاعتماد على شيركوه لشجاعته ومعرفته وأمانته
فانتدبه لذلك وجعل أسد الدين شيركوه ابن أخيه صلاح الدين مقدم عسكره وشاور
معهم فخرجوا من
دمشق على رأس الجيش وفي جمادى الأولى سنة 559ھ فدخلوا مصر وسيطروا عليها
واستولوا على الأمر في رجب من السنة نفسها.
ولما وصل أسد الدين وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها وقتلوا
الضرغام وحصل لشاور
مقصودة وعاد إلى منصبه وتمهدت قواعده واستمرت أموره غدر بأسد الدين شيركوه
واستنجد بالإفرنج عليه فحاصروه في بلبيس، وكان أسد الدين قد شاهد البلاد
وعرف أحوالها. ولكن تحت ضغط من هجمات مملكة القدس الصليبية والحملات
المتتالية على مصر بالإضافة إلى قلة عدد الجنود الشامية أجبر على الانسحاب
من مصر. واعاد الملك نور الدين بن عماد الدين زنكي بأرسال الجيش من
دمشق لمجابهة الصليبين. وبلغ إلى علم نور الدين في دمشق وكذلك أسد الدين مكاتبة
الوزير الخائن شاور للفرنج وما تقرر بينهم فخافا على مصر أن يملكوها
ويملكوا بطريقها جميع البلاد هناك فتجهز أسد الدين في قيادة الجيش وخرج من
دمشق وأنفذ معه نور الدين العساكر وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين، وكان
وصول أسد الدين إلى البلاد مقارنا لوصول الإفرنج إليها واتفق شاور
والمصريون بأسرهم والإفرنج على أسد الدين وجرت حروب كثيرة.
وتوجه صلاح الدين في قيادة الجيش إلى الإسكندرية فاحتمى بها وحاصره
الوزير شاور في جمادى الآخرة من سنة 562ھ ثم عاد أسد الدين من جهة الصعيد
إلى
بلبيس وتم الصلح بينه وبين المصريين وسيروا له صلاح الدين فساروا إلى دمشق.
عاد أسد الدين من دمشق إلى مصر مرة ثالثة وكان سبب ذلك أن الإفرنج جمعوا
فارسهم وراجلهم وخرجوا يريدون مصر ناكثين العهود مع أسد الدين طمعا في
البلاد فلما بلغ ذلك أسد الدين ونور الدين في الشام لم يسعهما الصبر فسارعا
إلى مصر أما نور الدين فبالمال والجيش ولم يمكنه المسير بنفسه للتصدي لاي
محاولة من قبل الإفرنج، وأما أسد الدين فبنفسه وماله وإخوته وأهله ورجاله
وسار الجيش.
يقول بن شداد:
«
لقد قال لي السلطان صلاح الدين قدس الله روحه كنت أكره
الناس للخروج في هذه الدفعة وما خرجت من دمشق مع عمي باختياري وهذا معنى
قول القرآن
"وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"»
(البقرة:216)
وكان شاور لما أحس بخروج الإفرنج إلى مصر سير إلى أسد الدين في دمشق
الشام يستصرخه ويستنجده فخرج مسرعا وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الأول
سنة 564ھ ولما علم الإفرنج بوصول أسد الدين على رأس الجيش من دمشق إلى مصر
على اتفاق بينه وبين أهلها رحلوا راجعين على أعقابهم ناكصين وأقام أسد
الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان وكان وعدهم بمال في مقابل ما خسروه
من النفقة فلم يوصل إليهم شيئا وعلم أسد الدين أن شاور يلعب به تارة
وبالإفرنج أخرى، وتحقق أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور
فأجمع رأيه على القبض عليه إذا خرج إليه، فقتله وأصبح أسد الدين وزيرا وذلك
في سابع عشر ربيع الأول سنة 564ھ ودام آمرا وناهيا وصلاح الدين يباشر
الأمور مقرراً لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته إلى الثاني
والعشرين من جمادى الآخرة من السنة نفسها فمات أسد الدين.
ولما بلغ صلاح الدين قصد الإفرنج دمياط استعد لهم بتجهيز الرجال وجمع
الآلات إليها ووعدهم بالإمداد بالرجال إن نزلوا عليهم وبالغ في العطايا
والهبات وكان وزيرا متحكما لا يرد أمره في شيء ثم نزل الإفرنج عليها واشتد
زحفهم وقتالهم عليها وهو يشن عليهم الغارات من خارج والعسكر يقاتلهم من
داخل فانتصر عليهم فرحلوا عنها خائبين فأحرقت مناجيقهم ونهبت آلاتهم وقتل
من رجالهم عدد كبير.
في
1170 أغار صلاح الدين على غزة التي كان يسيطر عليها
الصليبيون، وفي السنة التالية انتزع
أيلة من
مملكة
بيت المقدس الصليبية وأغار على مقاطعتي شرق
نهر
الأردن وقلاع
الشوبك والكرك.
تأسيس
الدولة فى مصرقلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة
طالع مقالة "الأيوبيون"بعد دخول صلاح الدين وسيطرته على مصر في البداية لم يكن مركز صلاح الدين
مستقرا بسبب الاضطراب الذي سببه توالي عدد كبير من الخلفاء الفاطميين في
مدد قصيرة، تحكم في قراراتهم سلسلة من الوزراء.
واستقرت الأمور لصلاح الدين ونقل أسرته ووالده نجم الدين أيوب إلى مصر
ليتم له السرور وتكون قصته مشابهة لقصة يوسف الصديق عليه السلام، ولم يزل
صلاح الدين وزيرا حتى مات العاضد آخر الخلفاء الفاطميين
1171 وبذلك انتهت الدولة الفاطمية وبدأت دولة بني أيوب
(الدولة الأيوبية).
بعد موت
العاضد سنة
1171، دفع صلاح الدين العلماء إلى المناداة
بالمستضيء الخليفة العباسي والدعاء له في
الجمعة والخطبة باسمه من على المنابر، وبهذا انتهت الخلافة الفاطمية في
مصر، وحكم صلاح الدين مصر كممثل لنور الدين الذي كان في النهاية يقر بخلافة
العباسيين.
سلطان مصرحدّث صلاح الدين اقتصاد مصر، وأعاد تنظيم الجيش مستبعداً العناصر
الموالية للفاطميين، واتبع نصيحة أبيه أيوب بألا يدخل في مواجهة مع نور
الدين الذي كان يدين له رسميًا بالولاء ويتبع له
و مع موت نورالدين سنة
1174 أسس صلاح الدين في مصر الدولة
الأيوبية وأتخذ من القاهرة
عاصمة لهذه الدولة ولقب "بالسلطان"، ومد نفوذه في اتجاه
المغرب العربي.
اليمنكان "شيركوه" عندما انطلق إلى جنوب مصر للقضاء على مقاومة مؤيدي
الفاطميين قد واصل الاتجاه جنوبا بحذاء
البحر
الأحمر باسطا نفوذه على اليمن ومُدخلها تحت حكم الأيوبيين.
دمشق
كان صلاح الدين قد تراجع في مناسبتين عن غزو
مملكة
بيت المقدس، وذلك في عامي
1170 و
1172 حيث كان يسعى للإبقاء على امن
بلاد مصر والنوبة، فكاد هذا يكون سببا في وقوع مواجهة مباشرة مفتوحة بين
صلاح الدين ونورالدين إلا أن موت نورالدين حسم المسألة، وكان ابنه
الصالح
إسماعيل طفلا، فعاد صلاح الدين إلى
دمشق واستقبل فيها بترحاب كبير بينما انتقل الصالح إسماعيل إلى
حلب وظل يقاوم
حتى مقتله سنة
1181.
في
دمشقكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح إسماعيل وكان بدمشق عند وفاة
أبيه ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن ولده الملك الصالح صبي لا
يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك واختلفت الأحوال بالشام وكاتب شمس
الدين ابن المقدم صلاح الدين فتجهز من مصر في جيش كثيف وترك بها من يحفظها
وقصد دمشق مظهرا أنه يتولى مصالح الملك الصالح فدخلها في سنة 570هـ وتسلم
قلعتها وكان أول دخوله دار أبيه، وهي الدار المعروفة بالشريف العقيقي،
واجتمع الناس إليه وفرحوا به وأنفق في ذلك اليوم مالا جليلا وأظهر السرور
بالدمشقيين وصعد القلعة, ثم بسط نفوذه على حلب والموصل عامي
1176 و
1177 على الترتيب، وبينما كان يحاصر
حلب يوم
22 مايو 1176 حاول
الحشاشون اغتياله، فأجروا محاولتين كانت ثانيهما وشيكة إلى حد أنه أصيب. بعد ذلك
فرض صلاح الدين نفوذه على الجزيرة وشمال العراق وأخضع الزنكيين في الموصل و
سنجار و
الأرتوقيين في
ماردين و
ديار
بكر، كما بسط نفوذه على
الحجاز.
وعضّد صلاح الدين مُلكه بالزواج من أرملة نورالدين،
عصمت الدين
خاتون الموصللما أحس سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي صاحب
الموصل بما جرى علم أن صلاح الدين قد استفحل أمره وعظم شأنه وخاف إن غفل
عنه استحوذ على البلاد واستقرت قدمه في الملك وتعدى الأمر إليه فأنفذ عسكرا
وافرا وجيشا عظيما وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود
وساروا يريدون لقاءه ليردوه عن البلاد فلما بلغ صلاح الدين ذلك رحل عن حلب
في مستهل رجب من السنة عائدا إلى حماة ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها ووصل عز
الدين مسعود إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح بن نور الدين صاحب
حلب يومئذ وخرجوا في جمع عظيم فلما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم
على قرون حماة وراسلهم وراسلوه واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه ورأوا أن ضرب
المصاف معه ربما نالوا به غرضهم والقضاء يجر إلى أمور وهم بها لا يشعرون
فتلاقوا فقضى الله تعالى أن هزموا بين يديه وأسر جماعة منهم فمن عليهم وذلك
في تاسع شهر رمضان من سنة570 هـ عند قرون حماة ثم سار عقيب هزيمتهم ونزل
على حلب وهي الدفعة الثانية فصالحوه على أخذ المعرة وكفر طاب وبارين ولما
جرت هذه المعركة كان سيف الدين غازي يحاصر أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار
وعزم على أخذها منه لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين وكان قد قارب أخذها
فلما بلغه الخبر وأن عسكره انكسر خاف أن يبلغ أخاه عماد الدين الخبر فيشتد
أمره ويقوى جأشه فراسله وصالحه ثم سار من وقته إلى نصيبين واهتم بجمع
العساكر والإنفاق فيها وسار إلى البيرة وعبر الفرات وخيم على الجانب الشامي
وراسل ابن عمه الصالح بن نور الدين صاحب حلب حتى تستقر له قاعدة يصل عليها
ثم إنه وصل إلى حلب وخرج الملك الصالح إلى لقائه أقام على حلب مدة.
محاولة
الباطنية اغتيالهيقول
أبو
شامة المقدسي في كتابه
الروضتين في أخبار الدولتين: "لما فتح
السلطان حصن بزاعة ومنبج أيقن من هم تحت سلطتهم بخروج مافي أيديهم من
المعاقل، والقلاع ونصبوا الحبائل للسلطان. فكاتبوا سناناً صاحب
الحشيشية مرة ثانية، ورغبوه بالأموال والمواعيد،
وحملوه على البتاع فأرسل، لعنه الله، جماعة من أصحابه فجاءوا بزي الأجناد،
ودخلوا بين المقاتلة وباشروا الحرب وأبلوا فيها أحسن البلاء، وامتزجوا
بأصحاب السلطان لعلهم يجدون فرصة ينتهزونها. فبينما السلطان يوماً جالس في
خيمة جا ولي، والحرب قائمة والسلطان مشغول بالنظر إلى القتال، إذ وثب عليه
أحد الحشيشية وضربه بسكينة على رأسه، وكان محترزاً خائفاً من الحشيشية،
لايترع الزردية عن بدنه ولاصفائح الحديد عن رأسه؛ فلم تصنع ضربة الحشيشي
شيئا لمكان صفائح الحديد وأحس الحشيشي بصفائح الحديد على رأس السلطان فسبح
يده بالسكينة إلى خد السلطان فجرحه وجرى الدم على وجهه؛ فتتعتع السلطان
بذلك.
ولما رأى الحشيشي ذلك هجم على السلطان وجذب رأسه، ووضعه على الأرض وركبه
لينحره؛ وكان من حول السلطان قد أدركهم دهشة أخذت عقولهم. وحضر في ذلك
الوقت سيف الدين يازكوج، وقيل إنه كان حاضرا، فاخترط سيف وضرب الحشيشي
فقتله. وجاء آخر من الحشيشية أيضا يقصد السلطان، فاعترضه الأمير داود بن
منكلان الكردي وضربه بالسيف، وسبق الحشيشي إلى
ابن منكلان فجرحه
في جبهته، وقتله
ابن منكلان، ومات
ابن منكلان من
ضربة الحشيشي بعد أيام. وجاء آخر من الباطنية فحصل في سهم الأمير علي بن
أبي الفوارس فهجم على الباطني ودخل الباطني فيه ليضربه فأخذه علي تحت إبطه،
وبقيت يد الباطني من ورائه لايتمكن من ضربه، فصاح علي: اقتلوه واقتلوني
معه، فجاء ناصر الدين محمد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بسيفه، وما زال
يخضخضه فيه حتى سقط ميتا ونجا ابن أبي الفوارس. وخرج آخر من الحشيشية
منهزما، فلقيه الأثير شهاب الدين محمود، خال السلطان فتنكب الباطني عن طريق
شهاب الدين فقصده أصحابه وقطعوه بالسيوف.
وأما السلطان فإنه ركب من وقته إلى سرادقه ودمه على خده سائل، وأخذ من
ذلك الوقت في الاحتراس والاحتراز، وضرب حول سرادقه مثال الخركاه، ونصب له
في وسط سرادقه برجا من الخشب كان يجلس فيه وينام، ولايدخل عليه إلا من
يعرفه، وبطلت الحرب في ذلك اليوم، وخاف الناس على السلطان. واضطرب العسكر
وخاف الناس بعضهم من بعض، فألجأت إلى ركوب السلطان ليشاهده الناس، فركب حتى
سكن العسكر
[5]."
الحرب
مع الصليبينبينما كان صلاح الدين يعمل على بسط نفوذه على عمق سورية فقد كان غالبا
يترك الصليبيين لحالهم مرجئا المواجهة معهم وإن كانت غالبا لم تغب عنه
حتميتها، إلا أنه كان عادة ما ينتصر عندما تقع مواجهة معهم، وكان الاستثناء
هو
موقعة
مونتجيسارد يوم
25 نوفمبر 1177 حيث لم يُبدِ الصليبيون مقاومة فوقع صلاح الدين في
خطأ ترك الجنود تسعى وراء الغنائم وتتشتت، فهاجمته قوات
بولدوين السادس ملك
أورشليم و
أرناط و
فرسان المعبد وهزمته. إلا
أن صلاح الدين عاد وهاجم الإمارات
الفرنجية من الغرب وانتصر على بولدوين في معركة مرج عيون
في
1179 وكذلك في السنة التالية في
موقعة خليج
يعقوب، ثم أرسيت هدنة بين الصليبيين وصلاح الدين في
1180.
إلا أن غارات الصليبيين عادت فحفزت صلاح الدين على الرد. فقد كان
أرناط يتحرش بالتجارة وبالحجاج المسلمين بواسطة أسطول له في
البحر
الأحمر، فبنى صلاح الدين أسطولا من 30 سفينة لمهاجمة
بيروت في
1182، وعندها هدد أرناطُ بمهاجمة
مكة و
المدينة، فحاصر صلاح الدين حصن
الكرك معقل أرناط مرتين في عامي
1183 و
1184، ورد أرناط بمهاجمة قوافل حجاج مسلمين سنة
1185.
تروى مصادر فرنسية من القرن الثالث عشر
[6] أن أرناط قد أسرَ في غارة أختَ صلاح الدين وإن كان ذلك غير مشهود في
المصادر المعاصرة، سواء الإسلامية أو الفرنجية، بل يُذكر أن أرناط هاجم
قافلة قبل ذلك وأن صلاح الدين أرسل حراسا لحماية اخته وابنها الذين لم
يصبها أذى.
بعد أن استعصى حصن
الكرك المنيع على صلاح الدين أدار وجهه وجهة أخرى وعاود مهاجمة
عزالدين مسعود بن
مودود الزنكي في نواحي
الموصل التي كان قد بدأت جهوده في ضمها سنة 1182، إلا أن تحالف عزالدين مع حاكم
أذربيجان و
جبال حال دون
تحقق مراده، ثم إن صلاح الدين مرض فأرسيت معاهدة في
1186.
في عام
1187 سقطت أغلب مدن وحصون
مملكة
بيت المقدس في يد صلاح الدين بعد أن هزمت القوات الصليبية في
موقعة حطين بتاريخ في
4 يوليو 1187.
حيث ألتقت قوات صلاح الدين في
معركة
حطين مع القوات المجتمعة بقيادة
غي
دي لوزينيان نائب ملك
مملكة
بيت المقدس، و
ريموند
الثالث كونت طرابلس، وفي تلك الموقعة كادت قوات الصليبيين تفنى.
دخلت قوات صلاح الدين
القدس يوم
2 أكتوبر 1187 بعد أن أستسلمت المدينة وكان صلاح الدين قد عرض
شروطا كريمة للاستسلام، إلا أنها رفضت، فبعد بدء الحصار رفض أن يمنح عفوا
للأوروبيين من سكان القدس حتى هدد
باليان بقتل كل الرهائن المسلمين الذين كان عددهم يقدر بخمسة آلاف، وتدمير
قبة الصخرة و
المسجد
الأقصى، فاستشار صلاح الدين مجلسه ثم قبِل منح العفو، على أن تُدفع
فدية لكل فرنجي في المدينة سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا، إلا أن صلاح
الدين سمح لكثيرين بالخروج ممن لم يكن معهم ما يكفي لدفع الفدية عن جميع
أفراد أسرهم.
قبل القدس كان صلاح الدين قد استعاد كل المدن تقريبا من الصليبيين، ما
عدا
صور التي كانت المدينة الوحيدة
الباقية في يد الصليبين. من الناحية الإستراتيجية ربما كان من الأفضل لصلاح
الدين فتح صور قبل القدس لكون الأولى بموقعها على البحر تشكل مدخلا
لإمدادات الصليبيين من أوروبا، إلا أنه اختار البدء بالقدس بسبب أهميتها
الروحية لدى المسلمين.
كانت
صور في ذلك الوقت تحت إمرة
كونراد
أمير مونتفرات الذي حصنها فصمدت أمام حصارين لصلاح الدين. كان صلاح
الدين قد أطلق سراح
جاي ذي لوزينان وأعاده إلى زوجته
سيبيلا ملكة
أورشليم، فلجئا أولا إلى
طرابلس ثم إلى
أنطاكيا، وحاولا عام
1189 استعادة
صور إلا أن كونراد حاكمها رفض دخولهما
لأنه لم يكن يعترف بجاي ملكا، فذهب جاي لحصار عكا.
ريتشارد
قلب الأسد والحملة الثالثةحفّز فتح القدس خروج حملة صليبية ثالثة، مُوِّلت في إنجلترا وأجزاء من
فرنسا بضريبة خاصة عرفت بضريبة صلاح الدين (
بالإنجليزية: Saladin tithe)، قاد الحملة ثلاثة
من أكبر ملوك أوروبا في ذلك الوقت هم
رِتشَرد (قلب الأسد) ملك
إنجلترا، و
فيليب أوغست ملك فرنسا، وملك
ألمانيا
فريدريك بربروسا الإمبراطور الروماني المقدس،
إلا أن هذا الأخير مات أثناء الرحلة، وانضم الآخران إلى
حصار
عكا التي سقطت في
1191، وأُعدم فيها ثلاثة آلاف سجين
مسلم بمن فيهم نساء وأطفال، في
7 سبتمبر 1191 اشتبكت جيوش صلاح الدين مع جيوش الصليبيين بقيادة
رتشرد في
معركة
أرسوف التي انهزم فيها صلاح الدين، إلا أن الصليبيين لم يتمكنوا من
اجتياح الداخل وبقوا على الساحل وفشلت كل محاولاتهم لغزو القدس فوقّع
رِتشَرد في
1192 معاهدة
الرملة مع صلاح الدين مستعيدا بموجبها مملكة أورشليم الصليبية في شريط
ساحلي ما بين
يافا و
صور كما فتحت القدس للحجاج المسيحيين.
العلاقة بين صلاح الدين الأيوبي و
رتشرد مثالا على الفروسية
والاحترام المتبادلين رغم الخصومة العسكرية، فعندما مرض
رتشرد بالحمى أرسل إليه صلاح
الدين طبيبه الخاص، كما أرسل إليه فاكهة طازجة وثلجا لتبريد الشراب، وهو
إلى جانب كونه فعلا كريما يعد استعراضا للقدرة، وعندما فقد
رتشرد جواده في أرسوف أرسل
إليه صلاح الدين اثنين.
عرض
رتشرد على صلاح الدين
فلسطين موحدة للمسيحيين الأوربيون والمسلمين العرب بطريق تزويج أخت
رتشرد بأخو صلاح الدين وأن
تكون القدس هدية زفافهما. إلا أن الرجلين لم يلتقيا أبدا وجها لوجه وكان
التواصل بينهما بالكتابة أو بالرسل.
وفاتهقبر صلاح الدين في دمشق
كانت المواجهة مع
ريتشارد و
معاهدة
الرملة آخر أعمال صلاح الدين، إذ أنه بعد وقت قصير من رحيل
ريتشارد، مات
صلاح الدين من الحمى في دمشق في
3 مارس 1193، الموافق يوم الأربعاء
27 صفر 589 ھـ. وعندما فُتحت خزانته الشخصية وجدوا أنه لم يكن
فيها ما يكفي من المال لجنازته، فلم يكن فيها سوى سبعة وأربعين درهما
ناصرية وجرما واحدا ذهبا ولم يخلف ملكا ولا دارا، إذ كان قد أنفق معظم ماله
في الصدقات
[7]صلاح الدين مدفون في ضريح في
المدرسة
العزيزية قرب
الجامع الأموي في
دمشق إلى جوار الملك
نور
الدين زنكي، وكان
فلهلم الثاني إمبراطور ألمانيا عندما زار دمشق توجه إلى مدفن صلاح الدين ووضع باقة زهور
جنائزية على قبره عليها نقش معناه "ملك بلا خوف ولا ملامة علّم خصومه طريق
الفروسية الحق"
[8]،
كما أهدى نعشا رخاميا للضريح إلا أنه جثمان صلاح الدين لم ينقل إليه وبقي
في النعش الخشبي، بينما بقي الهدية في الضريح خاويا إلى اليوم.
في ساعة موته كتب
القاضي
الفاضل قاضي
دمشق إلى ولده
الملك الظاهر صاحب
حلب بطاقة مضمونها {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} {إن زلزلة الساعة شيء
عظيم} كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه
وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا وقد
حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الحناجر وقد ودعت أباك ومخدومي وداعا لا
تلاقي بعده وقد قبلت وجهه عني وعنك وأسلمته إلى الله مغلوب الحيلة ضعيف
القوة راضي عن الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وبالباب من الجنود المجندة
والأسلحة المعدة ما لم يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء وتدمع العين ويخشع
القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف وأما الوصايا
فما تحتاج إليها والآراء فقد شغلني المصاب عنها وأما لائح الأمر فإنه إن
وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة
أهونها موته وهو الهول العظيم والسلام}.
صلاح
الدين في التراثفي
الوعي العربيشعار
مصر الحالي هو
العقاب المصري الذي اكتشف في قلعة صلاح الدين بالقاهرة
بالرغم من أن
الدولة التي أسساها صلاح الدين
لم تدم طويلا من بعده، إلا أن صلاح الدين يُعَدُّ في الوعي العربي
الإسلامي محرر القدس واستلهمت شخصيته في الملاحم والأشعار وحتى مناهج
التربية الوطنية في الدول العربية، كما أُلِّفَت عشرات الكتب عن سيرته،
وتناولتها المسرحيات والتمثيليات والأعمال الدرامية. لا يزال صلاح الدين
يضرب به المثل على القائد المسلم المثالي الذي يواجه أعداءه بحسم ليحرر
أراضي المسلمين، دون تفريط في الشهامة والأخلاق الرفيعة.
نسر العقاب الذي يرمز للدولة الأيوبية اتخذ كشعار للعديد
من الدول العربية في العصر الحديث، إذ يظهر هذا النسر في
العلم المصري، كما اتخذ شعارًا رسميآ في
سوريا وكذلك لكل من
ليبيا و
فلسطين و
العراق.
في
الوعي الأوروبيبالرغم من كون صلاح الدين خصما للأوربيين فإنه ظل في الوعي الأوربي
نموذجا للفارس الشهم الذي تتجسد فيه أخلاق الفروسية بالمفهوم الأوربي، حتى
أنه توجد ملحمة شعبية شعرية من القرن الرابع عشر تصف أعماله البطولية.
كما أن الشاعر
دانتي أليجييري مؤلف
الكوميديا
الإلهية قد وضعه في
المطهر مع عدد من
الشخصيات التي عدها كافرة - وفق معتقده المسيحي الكاثوليكي - لكنها في نظره
شخصيات صالحة وسامية أخلاقيا (وضع دانتي الرسول محمد في المطهر كذلك). كما
أن صلاح الدين يُصوَّر بشكل مقبول في رواية
والتر
سكوت التعويذة (The Talisman) المكتوبة سنة
1825.
عام 2006 جُسِدتْ شخصيةُ صلاح الدين في فيلم
مملكة الجنة (Kingdom of Heaven) على نحو يُبرز جوانب الفروسية وكرم النفس في شخصيته وقد جسد الشخصية
الفنان السوري
غسان
مسعود. ويدرك الأوربيون أنه بالرغم من المذابح التي أوقعها الصليبيون
عندما غزوا القدس في 1099 فإن صلاح الدين قد عفا عن كل المسيحيين الكاثوليك
(الأوروبيين) وحتى عن الجنود المنهزمين طالما كانوا قادرين على دفع
الفدية، في حين عومل الأرثودكس (و منهم مسيحيون العرب) حتى بأفضل من ذلك
لأنهم عادة ما كانوا يعارضون الغزو الأوربي الصليبي.
بالرغم من الاختلاف في العقيدة فإن القُواد المسيحيين امتدحوا صلاح
الدين، خصوصا
رتشرد قلب الأسد الذي قال
عنه أنه أمير عظيم وأنه بلا شك أعظم وأقوى قائد في العالم الإسلامي؛ كما رد
صلاح الدين بأنه لم يكن هناك قائد مسيحي أشرف من رتشرد.
قال عنه المؤرخون الأوربيون أن "من الحق أن كرمه وورعه وبعده عن التعصب؛
تلك الليبرالية والنزاهة التي كانت النموذج الذي ألهم مؤرخينا القدماء؛ هي
ما أكسبه احتراما في سورية الإفرنجية لا يقل عن الذي له في أرض الإسلام."
[8]